ما هكذا تورد الإبل يا سيادة الرئيس

العام 2004 صادف وجودي في دمشق افتتاحَ دار الأوبرا. كنت ضمن مجموعة من الإذاعيين من مختلف الأقطار العربية نتابع تدريبا مهنيا، وأعلمتنا زميلة من سوريا أن فرقة (إنانا) تقدم عرضها للعموم مجانا طيلة ثلاثة أيام احتفاء بهذه المناسبة، وسلمتنا بطاقات دعوة تمنحها وزارة الثقافة لأي مواطن سوري أو عربي يطلبها وهي ضرورية لأسباب تنظيمية، وحضرنا الحفل في ليلة رائقة لا تنسى. وقد قفزت هذه الذكرى الجميلة إلى شاشة مخيلتي وأنا أشاهد افتتاح دار الثقافة بن خلدون الرسمي تحت جنح الظلام، تحف بالرئيس مجموعة صغيرة من الإداريين ورجال الأمن في غياب تام للمثقفين والمبدعين فضلا عن العوام

سأفتح هنا قوسين صغيرين لأؤكد لكم أننا لو شبهنا العاصمة بالجسد لكانت دار الثقافة بن خلدون قلبه النابض. أتحدث هنا عن تونس الفاتنة التي فقدت ملامحها في زحمة السنين. فقبل أن يختص نهج بن خلدون في صناعة الشاورما وبيع الملابس المستعملة والفواكه الجافة كان يعج بقاعات السينما تصطف على امتداده وتتوزع حواليه، وفيه معارض دائمة للفن التشكيلي ومقاه وحانات يؤمها الفنانون، ويأتيه الطلبة من مختلف الأجزاء الجامعية وهم في طريقهم إلى المطعم الجامعي (الحسين بوزيان) الذي أصبح في ما بعد مركزا ثقافيا جامعيا، وفي أكناف شارع الثقافة هذا تقع الشركة التونسية للتوزيع في شارع قرطاج بما تعرضه على امتداد العام من كتب واسطوانات، ومكتبة عمومية بنهج يوغسلافيا، وغير بعيد عنه في الشارع الكبير المسرح البلدي

ورغم الأسئلة التي تحف بعملية ترميم دار الثقافة هذه ثانية بعد أقل من خمس سنوات من عملية ترميم أولى! فإن عودتها إلى سالف نشاطها في حلة جديدة مواكبة لروح العصر يعتبر حدثا مفرحا للجميع، وإنجازا مهما يرقى إلى مستوى الحدث الثقافي الوطني، فلماذا كان التدشين الرسمي على هذه الدرجة من الفقر في التصور والبؤس في الخيال والعجز عن الابتكار؟ لماذا هذا الجو الكئيب الذي أحاط بالافتتاح في ساعة من الليل تضاربت حولها الأنباء؟ لماذا هذه الصورة الكافكوية لموكب رسمي يشق هدوء الليل ويوقظ القطط النائمة في مداخل العمارات وكأن حدثا طارئا قد وقع ؟ لماذا لا تعرف السلطة كيف تسوق لنجاحاتها القليلة وجميع أفراد الشعب (يدهدصون) بحثا عن نقطة ضوء واحدة في العتمة؟

قياسا على ما ذكرته عن وزارة الثقافة في سوريا -وما هو إلا أنموذج واحد فقط ستجد شبيها له في كل الدول العربية- لماذا لم تنظم وزارتنا حفلا موسيقيا في افتتاح دار الثقافة بن خلدون المغاربية من جديد؟ ولماذا لم توزع دعوات على المبدعين والفاعلين الثقافيين لحضور التدشين؟ لماذا لم يكن الافتتاح في ساعة من ساعات المساء المأهولة بالناس وأمام أنظار الجميع وبحضور كافة وسائل الإعلام؟ ولماذا لا يزيح الرئيس الغطاء عن الرخامة الخضراء التي تحمل اسمه ثم يتوقف في القاعة الوسطى قليلا ليتبادل أطراف الحديث مع الحاضرين قبل أن يتقدمهم مبتسما في اتجاه الصف الأول من قاعة مزدحمة ليشاهد العرض الموسيقي؟

إن مشهد افتتاح الرئيس دار الثقافة بن خلدون بمفرده تحت جنح الظلام مشهد تنبعث منه موجات سلبية ومشاعر يأس وإحباط وكآبة، فالدار لا قيمة لها في غياب الجمهور، والثقافة لا معنى لها إن لم يكن الإنسان محورها، ولو كان حول الرئيس مستشارون أكفاء لنصحوه بألا يفعلها، وأن يجعل منها على الأقل مناسبة للالتقاء بالصادقين الأوفياء، فدار الثقافة بن خلدون وإن كانت تعني له شيئا فهي تعني للكثير من أبناء هذا الشعب أشياء وأشياء، وقالوا له بكل صدق: ما هكذا تورد الإبل يا سيادة الرئيس

بقلم عامر بوعزة