لقد أراد لنا الله سبحانه أن نكون أمّة ضعيفة شكلا و مضمونا و قد حبّب الله لنا في بطوننا و مواسمنا، أكل اللحم من الضأن. أليس الله هو الذي فدى يعقوب بذبح عظيم قتنازل لنا بنو يعقوب عن طقوس الذّبح و كبّشنا، نحن المسلمين، بحبّ اللحم لا تزهو أيّامنا و ليالينا بدونه و لا احتفال لنا في ديننا و دنيانا إلاّ به و باللّحم لا بالذّهب يتفاخر بعضنا على بعض في الأعياد و الأعراس و المواسم. كنْ فقيرا إن شئت و لكنّك مطالب بشراء اللحم ليلة الجمعة من كلّ أسبوع. كن فقيرا إن شئت و لكنّك مطالب بشراء اللحم ليلة النصف من رمضان بعضه لطعام الأحياء و بعضه الآخر لطعام الأموات
إنّها ليلة النصف من رمضان الكريم. قادتني زوجتي إلى الجزّار تلاطفني و قد فهمت تردّدي و فهمت نفوري. كيف لا أنفر و قد ارتفع سعر الكيلو من اللحم بل لقد شحّ اللحم في بلادنا و استورد منه الحاكم لحما يشبه اللحم و ازدحم الناس منذ أيّام على الجزّارين ازدحاما انخنقت به الأزقّة و الممرات و الشوارع
كان أملها في فتحي جزّار الحومة يعرفها و يعرفني و يعرف أنّي كنت موظّفا ساميا في الدّولة و منه اشترينا أكباش العيد سابقا و شوينا له منها الخصيتين و الكليتين, فسنكون في مجزرته من المبجّلين
كان الناس بعضهم فوق بعض أمتارا قدّام الحانوت، همست لزوجتي : ما ضرّ لو كان عشاؤنا اليوم ببعض الأسماك أو بعض الدّواجن فلنغادر هذه الحشود و لنطلب السلامة. كانت زوجتي مصرّة. لم يعرفنا فتحي هذا الصباح لقد كانت له أرقام و مهاتفات و أشباح تخترق الصفوف. هذه أنثى قيل إنّها دكتورة دخلت و تحمّلت و انصرفت. هذا صعلوك مرق الصفوف كانت سيّارة فخمة في انتظاره على الطريق و كان بلّورها كثيفا لم يتبيّن الناس صاحبها. قالوا إنّه الوالي و قالوا بل فنّان أو فنّانة سريعا ما أخذ لحمه و انطلق في سبيله
و لكنّ الطامّة كانت عندما أفرج الناس السّبيل لشيخ مكتهل تعاون الناس على إخراجه من حانوت الجزّار مغميّا عليه. قالوا لقد انقطع عنه التنفّس و قالوا هو مريض بالسكّر و ضغط الدّم. قال الناس هل من متطوّع يرفعه إلى الاستعجالي؟ هل فيكم من يعرف مقرّ سكناه.؟ و لكنّ الرّجل ما فتئ أن استرجع أنفاسه و تسلّم قرطاس اللحم و انصرف مصفرّ الوجه منهوك القوى تاركا وراءه خلقا عظيما بعضهم سيأكل اللحم اليوم و بعضهم سيؤكل لحمه في ليلة فضيلة من ليالي تونسنا العزيزة و ليلة فضيلة من ليالي تاريخنا المجيد
إيّاكم أن تحتملوا ذرّة من خيال في هذا النصّ فهذا شيء من واقع أغرب من الخيال
الدكتور الهادي جطلاوي