الرجوع إلى الوراء

بثت القنوات الجزائرية تقريرا إخباريا تظهر فيه شاحنة بصدد مغادرة شركة (سونلغاز) محملة بشحنة من عدادات الكهرباء الذكية متجهة إلى تونس، ويقول مدير الشركة في التقرير إن هذه الشحنة تدخل في إطار صفقة تم توقيعها بين البلدين نهاية العام 2022. وهذا الخبر الذي يدل في السياق الجزائري على تطور الصناعات الوطنية وقدرتها على اكتساح الأسواق العالمية لا يمكن لعدة أسباب أن يمرّ دون أن يثير استغراب المتلقي في تونس

من هذه الأسباب أن الصناعات الميكانيكية والكهربائية تحتل المرتبة الأولى في بلادنا بنسبة (28%) من مجمل الاستثمارات في المجال الصناعي الذي يمتاز بطاقة تشغيلية عالية، إذ أسهم العام 2023 في خلق 58% من الوظائف الجديدة. وتعتبر الشركة الصناعية للأجهزة والآلات الكهربائية ( سيام) التي تم إنشاؤها العام 1976 مؤسسة رائدة على النطاقين الوطني والقاري. ونموذجا مثاليا للشراكة بين القطاعين العام والخاص، إذ تنتج هذه الشركة أنواعا مختلفة من (العدادات الذكية) وكانت قد أعلنت العام 2017 على شراكة استراتيجية مع عملاق الصناعة الصينية (هواوي) لتطوير حلول رقمية متكاملة لفائدة الشركة التونسية للكهرباء والغاز ولحرفاء آخرين في منطقة إفريقيا والشرق الأوسط

العدادات الذكية تصنف ضمن (انترنت الأشياء) حيث تنتفي الحاجة إلى أعوان يزورون البيوت دوريا للاطلاع على مؤشر الاستهلاك، فالعدادات الجديدة متصلة بالشبكة عبر الانترنت وتمكن من التحكم في نوعية الخدمات وسبل الاستخلاص، وبواسطتها يمكن مثلا إرساء منظومة الدفع المسبق. ولتنفيذ هذه الثورة الرقمية لا بد من تغيير كل العدادات الموجودة حاليا بأخرى من النوع الجديد وهو ما يفتح أمام الصناعيين على مدى متوسط سوقا ضخما يسيل اللعاب

إننا في هذا الموضوع بالذات نحتاج صورة أكثر وضوحا، وأجوبة دقيقة غير متلعثمة عن تساؤلات مشروعة: ما الذي يدفع بلادنا المتفوقة في مجال الصناعات الكهربائية إلى استيراد عدادات ذكية من الجزائر؟ وأين هو موطن القصور في علاقة الشركة التونسية للكهرباء والغاز بالشركة الصناعية للأجهزة والآلات الكهربائية وغيرها من الشركات الوطنية القادرة على توفير مثل هذه المعدات للسوق المحلية وللخارج؟ هل يدخل ذلك في نطاق تفاهمات ما نجهلها مع الجار الغربي؟ أم يدخل في نطاق تصور النظام القائم لعدم إمكانية الشراكة بين القطاعين العام والخاص؟؟ ما تأثير الخيارات السياسية على الأولوية الاقتصادية؟ وكيف نقنع المستهلك التونسي باقتناء البضائع الوطنية والحال أن المرفق العام ينزل بكل ثقله إلى مجال الاستيراد؟

نحاول أن نفهم الصورة بلغة الواقع والمنطق والعقل، أما لو تركنا للحسرة والحنين مجالا فإننا سنذكر بلا شك تونس السبعينات التي كانت تصنع الثلاجات وأجهزة التلفزيون والسيارات والحافلات وتطبع الأسطوانات والكتب، قبل أن تختار طوعيا التخلي عن الصناعة والفلاحة لبناء اقتصاد هش يقوم على الخدمات والمناولة، أفليس من الضروري الآن وقبل أن يزداد الجرح تعفنا التفكير بكل جدية في الرجوع إلى الوراء؟

بقلم عامر بوعزة