الحزب الجمهوري يعتبر مآل إنتخابات يوم 6 أكتوبر فاقدا للمصداقية والمشروعية

تقبل تونس يوم 6 أكتوبر 2024 على حدث سياسي ذي أهمية بالغة يتمثل في إنتخاب من سيتولى رئاسة البلاد بعد إنتهاء عهدة إستثنائية بدأت بتولي قيس سعيد الرئاسة بمقتضى أحكام دستور 2014 المجسد لمبادئ الديمقراطية التمثيلية التعددية والليبرالية السياسية وإنتهت بإبطال هذا الدستور وتفكيك المؤسسات المنبثقة عنه والعودة بتونس إلى حكم إستبدادي خلنا أن الثورة وضعت حدا له وبدون رجعة

لقد إنخرط الحزب الجمهوري منذ 25 جويلية 2021 في معارضة المسار الذي إستهدف المنظومة الديمقراطية التعددية، المكسب الوحيد الذي حققه الشعب التونسي من ثورة 17-14، في تراجع خطير برره من أقدم عليه بما شاب عشرية 2012-2021 من إنحرافات أو تقصير، ليذهب به إلى إهدار المبادئ والقواعد التي أقرها دستور 2014 وفي مقدمتها ضمان الحريات العامة والفردية، وضمان حرية إختيار ممثلي الشعب وحكامه وإستقلالية السلط الثلاث والهيئات الدستورية، وليعصف بالمؤسسات التي قامت تجسيدا لهذا الخيار الديمقراطي التحرري، وليحول إنطلاقا من المرسوم 117 حالة الإستثناء إلى مسعى إقامة دكتاتورية دائمة

إزاء هذا الإنحراف المعاكس والإستبداد الجديد والمتدثر برداء الثورية والطهرية ولواء الإرادة الشعبية، إنتهج الحزب الجمهوري خط النضال السلمي والحازم من أجل إستعادة مكتسب الحياة الديمقراطية وحق التونسيين جميعا على إختلاف مشاربهم في تقرير مصيرهم بعيدا عن العنف والتخوين والإقصاء، وقرر التعامل مع الإنتخابات الرئاسية كإستحقاق وطني ودستوري يتعين إستثماره لتحقيق هذه الغاية

وفي تعاطيه مع الخيارين المطروحين داخل المعارضة أي المشاركة والمقاطعة، إعتبر الجمهوري هذه الأخيرة بمثابة قرار يبدو جذريا ومبدئيا وصلبا في التعاطي مع منظومة الحكم الإستبدادية لكنه لا يتيح الدفع بإتجاه ديناميكية منتجة للمبادرات ومحفزة للتحركات النضالية المتنوعة ولا يوفر فرصا كافية لممارسة الضغط المطلوب لأجل تنظيم إنتخابات يريدها قيس سعيد بيعة ثانية ونريدها عملية تنافسية ومفتوحة تتوفر فيها النزاهة وتجري في كنف الحرية والتساوي بين المترشحين

في هذا الإطار وإثر فشل محاولة جمع أكثر ما يمكن من أطياف المعارضة على أرضية برنامج مشترك وحول مرشح واحد وفي ظل العقبات التي وضعتها هيئة الإنتخابات أمام محاولة ترشيح الأمين العام عصام الشابي المعتقل ظلما وعدوانا، قرر الجمهوري مساندة جميع المترشحين في الدفاع عن حقوقهم كما إنخرط في الحملة الوطنية من أجل مراجعة القانون الذي يمنح هيئة الإنتخابات المنصبة سلطات تعسفية تتيح لها إبطال نتائج التصويت، وكذلك من أجل إلغاء المرسوم 54 الزجري ودعم المترشحين الذي تعرضت حرياتهم وحقوقهم للإنتهاك

وبالفعل فقد عاينا وعاين التونسيون معنا النسق التصاعدي للخطابات العنيفة الإقصائية وللقرارات والإجراءات التي تتالت للتضييق على المترشحين بهدف ترهيبهم ومحاولة الدفع بهم إلى مغادرة السباق طلبا للسلامة وبالتالي فسح الطريق لعهدة ثانية للرئيس قيس سعيد. ضمن هذا السياق سجلنا مطعنين رئيسيين في المسار الإنتخابي

-الأول: أن الهيئة العليا للإنتخابات تصرفت منذ تعيينها بإعتبارها رهن إرادة الرئيس سعيد سواء بفرض شروط إقصائية للحصول على التزكيات وإبطال الكثير منها بتعلات واهية، أو تلاعبها بموضوع بطاقة السوابق العدلية وهي العليمة بأن تسليمها مرهون بقرار وزارة الداخلية ولا دخل للمترشح فيه، أو رفضها لثلاث ترشحات ثم إمتناعها عن الإلتزام بقرارات المحكمة الإدارية بإرجاع المترشحين إلى السباق الإنتخابي وتنصيب نفسها حكما مزعوما بين قرارات القضاء الإداري وأحكام القضاء العدلي، وهو ما جعل من هيئة الإنتخابات غير المستقلة رأس حربة في يد السلطة التنفيذية لتمرير مشيئتها

-الثاني: إفتعال قضايا وملفات ضد عديد المترشحين لغاية إسكات البعض وشل نشاط البعض الآخر بدءا بإيداع لطفي المرايحي السجن، مرورا بمنع عبد اللطيف المكي من التحرك والتواصل مع المواطنين وإنتهاءا بعملية الهرسلة والتنكيل التي إستهدفت العياشي الزمال ومراكمة القضايا المرفوعة ضده وإصدار أحكام ثقيلة بحقه، وهو ما شكل إنتهاكا صارخا لحقوق هؤلاء الناشطين السياسين وحتى في حق الشعب التونسي في تقرير من يختاره لإدارة الدولة والبلاد

رغم كل هذه التضييقات والتجاوزات، ورغم إعلان الرئيس قيس سعيد أنه لن يسلم الحكم إلا لمن تتوفر فيه صفات الوطنية التي يحتكرها ويحتكر تعريفها، ورغم تحكم رئاسة الدولة في مؤسسات الإعلام العمومي وإقصاء الرأي المعارض منها وتحويلها إلى منابر دعاية لها-لم يتعامل الحزب الجمهوري مع الإنتخابات الرئاسية على أنها مجرد مهزلة أو مسرحية سيئة الإخراج بل إعتبرها فرصة لفضح الإنفراد بالسلطة وإرتكاب الخروقات الخطيرة، وبالغعل فإن الترشحات وأنشطة المترشحين للرئاسة جعلت السلطة وأجهزتها تراكم الأخطاء والإنتهاكات وتكشف عن إزدرائها بالقانون وإستعدادها للدوس عليه أو تغييره إن تعارض مع مصلحتها الضيقة، وهو ما إتضح من خلال تنطع هيئة الإنتخابات وإستقوائها برئيس الجمهورية، كما إتضح إثر الموقف المشرف للمحكمة الإدارية وما كان يمكن أن يفضي إليه من إبطال المسار الإنتخابي أو نتائجه وذلك عندما عمدت سلطة الدولة عبر أداتها البرلمانية إلى تعديل القانون الإنتخابي بسحب صلاحية النظر في الطعون من المحكمة الإدارية وإسنادها إلى هيئات ينتظر منها الحكم لصالح الحاكم وقد حصل هذا الإنقلاب التشريعي قبل موعد الإنتخابات بأيام قليلة في خرق مفضوح لما توافقت عليه القوى والنخب السياسية منذ 2019

وفي الجملة يتضح أن خيار المشاركة في المسار الإنتخابي والعمل تحت سقفها من قبل المترشحين ومسانديهم والأحزاب وهيئات المجتمع المدني قد سمح بخوض معركة ترشح دفعت قادت النظام إلى إرتكاب تجاوزات وخروقات عديدة و قطاعا متنامي الصفوف من المجتمعين السياسي والمدني وسائر الموطنين إلى موقع الإستنكار والإحتجاح على التعسف الذي أصبح أسلوب الحكم الوحيد، كما كشفت عن تناقضات وتقلبات في مواقف وتصريحات السيد قيس سعيد منذ كان أستاذا في القانون مرشحا للرئاسة إلى أن أصبح رمزا للنظام الرئاسوي القائم

اليوم وقد أشرف المسار الإنتخابي على نهايته من المهم تقييم حصيلة خيار المشاركة، وما تقدم يبين أن ما أردناه إشتباكا سلميا ومتمدنا وفي إطار القانون مع النظام القائم لغرض إستعادة حق التونسيين في حياة سياسية ديمقراطية قد إصطدم بجدار الإستبداد والإقصاء وصلف المؤسسة الموكل لها إنجاح العملية الإنتخابية والخرق الفاضح للقانون

لقد كان لهذه الإنتهاكات لا محالة مفعول عكسي حيث أدت إلى إنفضاض قطاع هام من المجتمع السياسي والمدني ومن سائر المواطنين عن النظام، وبالمقابل فإن نهج التضييق والتعسف وتحريض الرأي العام على المترشحين لمنافسة الرئيس قيس سعيد حال دون تحقيق الغاية من المشاركة وهي تمكين التونسيين من قول كلمتهم في إنتخابات تنافسية وديمقراطية، في ظل تكافئ الفرص ومعاملة المترشحين بالتساوي من قبل هيئة إنتخابات مستقلة فعلا ومحايدة فعلا وضامنة فعلا لنزاهة العملية الإنتخابية

في ضوء ما سبق يعتبر الحزب الجمهوري أن خيار المشاركة قد إستنفذ أغراضه مصطدما بعقلية الإحتكار وإرادة الإنفراد وحلم المبايعة وإنحياز الحكم، ويقرر وضع حد لإنخراطه في سياق المشاركة في الإنتخابات حتى لا يتحول إلى غطاء لمآل فاقد للمصداقية والمشروعية، مع تفهمه وإحترامه لإختيار المترشحين المعارضين مواصلة المشوار

عن المكتب السياسي
الأمين العام بالنيابة عبد اللطيف هرماسي