الفتنة نائمة … لا توقظوها !!! (2)

تناول مسلسل « الفتنة » في هذا الموسم الرمضاني 2025 بإخراج سوسن الجمني ما يمكن أن نسمّيه بالفتنة الاجتماعيّة أو الفتنة العائليّة و صبّ المسلسل علينا كلّ أشكال الفتنة صبّا فرضه عليه الظرف الرمضاني الضيّق فكان يمكن لكلّ باب من أبواب الفتنة التّي فتحها هذا المسلسل أن يستقلّ بنفسه في شريط خاصّ به يتوسّع في مسائله و في مناقشتها

و لعلّ أبرز القضايا المطروحة في « الفتنة » هي قضيّة « المواريث » و نحن لا نسمّيها في تونس « الفتنة » بل هي « خصومة » أو « خلاف » أو « عركة » لأنّ « الفتنة » التونسيّة هي « التفتين » بين الناس أي النميمة المولّدة للحقد و البغضاء و الشقاق

و الإرث سبب من أسباب الخلاف لا تسلم منه عائلة من العائلات التونسيّة و لذلك رأت العائلات التونسيّة جميعها نفسها معنيّة بأحداث المسلسل الذي حيّر في الكثير منّا خلافات و قضايا عدلية وتعاطف مع ضحايا المستكرشين و المتغوّلين و المتحيّلين المتلهوثين على مواريث الضعاف و البسطاء من الصغار و النّساء و العجّز

و لكنّ القضيّة الأهمّ في اعتقادي التّي كان من الواجب التطرّق إليها ليست قضيّة الميراث و ليس الميراث إلاّ وجها بسيطا من وجوهها و أسبابها، ألا وهي قضيّة التفكّك الأسريّ في المجتمعات عامّة و في مجتمعنا التونسي على وجه الخصوص

لقد كنّا نعتدّ في عهد ليس ببعيد بمفهوم مشرّف للأسرة التونسيّة تكون فيه موسّعة حاضنة للآباء و الأمّهات و الإخوة و الأعمام و الأخوال و الأنساب و الأحباب تستر ماء وجهها قدّام الناس فتتجمّع في الأفراح و الأتراح و تُظهر للناس قناعا و لو كاذبا متظاهرا بالتماسك و الانسجام. أمّا اليوم فقد تعرّت الأقنعة و افتضحت الفُرقة و انحلّت الأسرة و تفكّكت الأواصر لا سيّما بموت الكبار و استقلال الصغار و اندثار الآثار و تقلّصت الأسرة الموسّعة إلى أسرة مضيّقة بل إنّ النواة الأسريّة تحتضر اليوم في بلادنا إلى الحدّ الذي لا يفوح فيه موت المرء إلاّ بفواح رائحته و ظلّت « صلة الرّحم » شعارا دينيّا أجوف لأنّ « البهارات » الجامعة بين الناس من حبّ و قرابة و مقامات و احترام و تقدير و تبجيل.. قد تحوّلت، باسم الحداثة و المدنيّة، إلى حسد و حقد و كراهية و ترفّع و استغناء … و باتت « المصلحة » اليوم هي القانون المتحكّم في البناء الأسريّ و المجتمعيّ على أساس الخوف و الطمع لا على أساس المحبّة و التقدير

و انقطاع صلة الرّحم ظاهرة و الحقّ يقال قديمة في المجتمع العربي البدوي رغم قيامه على العصبيّة و لكنّها استفحلت في هذه الأزمان « المثقّفة »، ذلك أنّ الشعراء ما انفكّوا قديما يتوجّعون من لفظ العشيرة كذلك قال الشنفرى

 أقيموا بني أمّي صدورَ مطيّكم \\ فإنّي إلى قوم سواكم لأميلُ

و كذلك قال طرفة بن العبد

و ظلمُ ذوي القربى أشدّ مضاضةً \\ على المرء من وقع الحسام المهنّد

 و كذلك قال أبو فراس الحمداني 

« سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم \\ و في الليلة الظلماء يُفتقد البدر »

و كذلك ترجمنا عن الفرنسيّة

لا نبيّ في قومه… الخ

فكان أولى بالفتنة أن تتناول تفكّك الأسرة و المجتمع و « إحباط العزائم » في الشعوب المتخلّفة حتّى تموت و إذكاء الهمم في الشعوب المتحضّرة ختّى تفوق. و ما فتنة الميراث إلاّ وجه من وجوهه

الدكتور الهادي جطلاوي