إن المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين، وفي خضمّ الوضع القضائي العام الحالي والذي يتسم بمزيد توسع نفوذ وزارة العدل داخل القضاء وبسط سيطرتها الكاملة عليه باستغلال وضعية الفراغ المؤسسي وحالة الشلل للمجلس المؤقت للقضاء العدلي بعد إحداث شغورات قصدية في تركيبته وعدم سدها منذ عامين
ومع الأوضاع المتفاقمة والحرجة والمثيرة للانشغال الشديد التي تحولت شيئا فشيئا إلى وضعية كارثية تتعمق يوما بعد يوم وسنة بعد أخرى وصل إليها القضاء بعد نزع كل ضمانات الاستقلالية عليه في غياب مجلس أعلى للقضاء مستقل وفاعل ومن خلال الإدارة المباشرة التي يخضع لها من السلطة التنفيذية وفي ظل التدخل التشريعي للحد من اختصاصاته على غرار ما حصل في تنقيح القانون الانتخابي وهو ما أدى إلى تقهقر دوره في حماية الحقوق والحريات وتلاشي موقعه في صنع أي توازن بين السلط
وأمام التعسف المتواصل في استعمال آلية مذكرات العمل بصفة تكاد تكون يومية في القضاء العدلي بقصد إحداث تغییرات جوهرية ومستمرة في تركيبة المحاكم ومسؤوليها وقضاة النيابة العمومية وقضاة التحقيق والدوائر القضائية الحكمية خلال السنة القضائية في عدد كبير من محاكم الجمهورية دون مراعاة لأدنى الضوابط القانونية في ذلك أو المعايير الموضوعية أو لمقتضيات حسن سير القضاء ومرفق العدالة
وبالنظر إلى التوسع غير المسبوق في تاريخ القضاء على مدى كل الأحقاب في استعمال تلك المذكرات لترقية القضاة من رتبة إلى أخرى بالإضافة إلى عدم وضع حدّ للإيقافات عن العمل التي أقدمت عليها وزيرة العدل خارج أي مسار تأديبي كاشف للأسباب والمبررات، وبالنظر إلى ما نتج عن ذلك في كثير من الحالات من إفراغ للمحاكم من العدد المعقول من القضاة حفاظا على حسن سير العمل وما أدى إليه من ضرورة دمج الدوائر بعضها في بعض وأفضى إلى حصول ارتفاع بين في حجم العمل في عديد المحاكم يفوق طاقة الاحتمال البشرية نتيجة كثرة الملفات مع طول الجلسات التي تمتد إلى ساعات متأخرة من الليل دون إيلاء أي اعتبار انساني لإرهاق القضاة والكتبة والمحامين وعدم قدرة المتقاضين على متابعة قضاياهم نتيجة الاضطراب والفوضى في توزيع الملفات بحكم حذف دوائر ودمجها في دوائر أخرى نتيجة النقل الاعتباطية للقضاة بشكل شبه يومي من ذلك ما حصل في المحاكم الابتدائية بالمنستير وقفصة وسيدي بوزيد وغيرها فضلا على ما تسببت فيه تلك النقل من إغراق لمكاتب التحقيق ومكاتب النيابة العمومية وانتظار المتهمين الموقوفين دون النظر في قضاياهم والبت فيها
وبعد التنبيه المتكرر وبشكل خاص إلى بقاء محكمة التعقيب بلا رئيس أول وبدون وكيل للدولة منذ أكثر من سنتين وهو وضع شاذ وغير مسبوق وإلى اسناد إدارة هذه المحكمة العليا إلى قضاة بتكليف يسهل توجيههم من وزارة العدل في تشكيل الدوائر وتوزيع الملفات وتنطبق هذه الوضعية للشغور المتواصل أيضا على المحكمة العقارية التي خلت هي أيضا من رئيس لها. إضافة إلى ما تمت ملاحظته من أن تعيين رؤساء الدوائر بمحكمة التعقيب عن طريق مذكرات العمل من جملة القضاة الأقل أقدمية وحتى الأقل كفاءة يتم في نطاق التعتيم التام وفي جو تسوده المحاباة وتستخدم فيه الصلات الشخصية بوزراة العدل والقائمين عليها حيث تغيب مقاييس الكفاءة والاستقلالية والنزاهة والتناظر الشفاف
كما يتأكد التنبيه إلى توقف انعقاد هيكل الدوائر المجتمعة بمحكمة التعقيب منذ أكثر من سنتين في ظل شغور خطة الرئيس الأول للمحكمة الذي يدعو لانعقادها وما ترتب عن ذلك من تعطل حقوق المتقاضين في البت في قضاياهم المعروضة على تلك الدوائر المجتمعة ونخص بذكر منها القضايا الجزائية المتعلقة بالموقوفين في السجون ممن ينتظرون قرارا ت الدوائر المجتمعة منذ سنين، فإن المكتب التنفيذي
أولا: يستنكر بشدة تواصل النهج التسلطي الذي تسلكه وزارة العدل واستئثارها بتسيير القضاء العدلي والتحكم في المسارات المهنية للقضاة وإدارتها بشكل تعسفي وانتقامي خارج كل ضمانات التقييم الموضوعي والمستقل للأداء القضائي والتنافس على المسؤوليات القضائية بعد تعمد تغييب المجلس المؤقت للقضاء العدلي وتجميد نشاطه واستدامة تلك الوضعية وانعدام كلّ بوادر لوضع حدّ لها
ثانيا: يشدد على أن إطلاق يد السلطة التنفيذية في إدارة المسارات المهنية للقضاة بمذكرات العمل قد ألغى آلية الحركة القضائية السنوية كضمانة من ضمانات استقرار عمل القضاة والعمل داخل المحاكم بما أصبح له وخيم العواقب إذ أفضى إلى وضعية أضحى فيها القضاة غير قادرين على حماية حقوق وحريات المتقاضين لما يتهددهم بشكل اعتباطي وفوري من نقل وتجريد من المسؤوليات وحط من الرتبة
ثالثا: يذكر وبعد المعاينة السابقة عموم القضاة والرأي العام بأسره أن جميع النقل السابقة بمذكرات العمل أو التجريد من المناصب تأسست كلها على قاعدة الجزاء والعقاب واقترنت بنقلة المسؤولين السابقين إلى دوائر قضائية بعيدة عن مقرات سكناهم وبالحط من رتبة العديد منهم في خرق واضح لمبدأ الأمان القانوني ولمبدأ عدم نقلة القاضي إلا برضاه المنصوص عليه بالدستور
رابعا: يجدد طلبه بفتح تحقيقيات حول ظروف وملابسات قرارات التجريد من الخطط القضائية والإيقافات عن العمل والتي أثارت عديد التساؤلات في الوسط القضائي منها إيقاف القاضي المستشار بديوان وزيرة العدل واستقالته وإحالته على القضاء، وإعفاء المتفقدة العامة بوزارة العدل من خطتها وتعيينها وكيلا للرئيس الأول لمحكمة التعقيب في تغييب كامل لضمانات المساءلة القانونية ودون بيان ما تسبب فيه القاضيان المذكوران من أضرار جسيمة بالمحاكم من خلال تدخلهما في إدارتها وتعيين القضاة واعفائهم ويطالبون وزيرة العدل بتقديم الإيضاحات اللازمة حول كل ذلك
خامسا: يسجل أن غياب الضوابط القانونية والمؤسسية في ترقية القضاة بمذكرات العمل أدى إلى عدم ترتيب الاَثار المادية على ذلك مما ينال من مبدأ الأمان المالي للقضاة ويحرمهم من مستحقات مادية وامتيازات عينية كأثر مباشر للارتقاء من رتبة إلى أخرى
سادسا: يشير إلى التداعيات الخطيرة لتسمية القضاة والقاضيات بالمؤسسات القضائية الأخرى كالمعهد الأعلى للقضاء وضمن إطار التدريس من بين الموالين وأصدقاء وصديقات وزيرة العدل خارج كل معايير الشفافية والتناظر على الكفاءة العلمية والاستقلالية وأن ذلك يحصل في مؤسسة من المفروض أن تكوّن وتنشئ القضاة على قيم الاستقلالية والحياد على السلطة التنفيذية وعلى كل السلط ومراكز الضغط والنفوذ
سابعا: يسجلون بعميق الخشية والانشغال غياب أي رؤية لبرنامج إصلاحي للقضاء من خلال سياسات عمومية مكتوبة ومدروسة طبق المعايير الدولية المعلومة تُعرض للنقاش العمومي واندثار آليات الإصلاح القضائي وانقطاع إشاعة ثقافة استقلال القضاء في غياب المؤسسات المستقلة للقضاء وأهمها مجلس أعلى للقضاء منتخب ومستقل
ثامنا: يستخلص المكتب من كل ما سبق أن استفحال هذه الوضعية الكارثية للقضاء أدى إلى
– حالة من الفوضى ومن اختلال التوازن في توزيع القضاة بين المحاكم بما أثر بوضوح على سير العمل وعلى حقوق المتعاملين مع المرفق القضائي من متقاضين ومحامين
– مزيد إحكام قبضة وزارة العدل على المسؤوليات القضائية بإدخال التغييرات المتتالية عليها دون مراعاة للأقدمية وللكفاءة المستوجبتين وحتى في المراكز الأكثر حساسية من ذلك خطة وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس التي عين فيها 3 قضاة في ظرف وجيز دون أن تبين الوزارة أسباب التعيين وأسباب الإقالة ودون الإبلاغ عن نتائج التحقيقات التي يعلن عن مباشرتها من حين لآخر بمناسبة الإقالات كإقالة وكيل الجمهورية الأسبق بالمحكمة الابتدائية بتونس والتي أثارت عديد التساؤلات لدى الرأي العام
– فقدان الثقة في القضاء وفي عدالة المحاكمات خاصة ذات الخلفية السياسية وذات العلاقة بحرية الرأي والتعبير والإعلام أو التي تكون في طليعة اهتمام الرأي العام، وهكذا صار المشهد القضائي وبالنظر إلى غياب مبدأ الشفافية محكوما بالكلية في عملية إعادة تشكيل واضحة بمدى فاعلية الشبكات الخفية من الصلات الشخصية بوزارة العدل والقائمين عليها والانتفاع منها ووفقا لرغبة السلطة السياسية في تقريب الموالين واستبعاد غيرهم وذلك بدءا بمحكمة التعقيب ووصولا إلى كل محاكم الجمهورية بلا استثناء
تاسعا: يتوجه المكتب التنفيذي في الأخير بالتهنئة مجددا إلى قضاة الفوج 32 المتخرجين حديثا من المعهد الأعلى للقضاء بعد تعيينهم في مختلف المحاكم ويدعوهم وعموم القضاة إلى التمسك باستقلالهم وحيادهم في أداء رسالتهم النبيلة ولعب دورهم كاملا في حماية الحقوق والحريات وتفعيل مبادي المحاكمة العادلة
كما يذكر عموم القضاة بأن اعتصامهم بتطبيق القانون وانصاف الناس في حقوقهم وحرياتهم مهما اشتدت الظروف ودون الخضوع لأي ضغوطات يبقى واجبهم ومسؤوليتهم الأصلية وضمانتهم الوحيدة في حفظ كرامتهم واعتبارهم كقضاة وفي حفظ موقع القضاء في إقامة العدل ورد الظلم والحيف على كل طالب للعدالة وهو ما تستقر به السلم الاجتماعية وتترسخ به مقومات دولة القانون
تونس في: 17 فيفري 2025
عن المكتب التنفيذي
رئيس الجمعية
أنس الحمادي
بيـــــــان