خارج الموضوع

في انتظار وصول إشارة البث التلفزيوني من مقر مجلس نواب الشعب لنقل مراسم أداء الرئيس المنتخب اليمين سألت المذيعة أحد ضيوفها عن توقعاته بخصوص برنامج الحفل، وإن كان الرئيس قيس سعيد سيلقي كلمة أم سيكتفي بأداء القسم؟ وهذا لا يحدث إلا في تونس، حيث بات كل شيء خاضعا للمزاج الرئاسي، دون التزام بالأصول والأعراف التي تقتضي من وسيلة الإعلام الرسمية أن تعلم مشاهديها بما سيشاهدونه، لا أن تمارس العرافة والتكهنات

ورغم هذا الغموض، فإن الخطاب كان مهما لأنه يدشن عهدة رئاسية ثانية، شعارها (البناء والتشييد) والجمهور يتطلع إلى معرفة برنامج الرئيس لتغيير حياة الناس في المستقبل، لكنه اكتفى في هذا المجال بعبارات فضفاضة يقولها أي شخص عادي فضلا عن المعارض السياسي وتبدأ بعبارات من نوع (ينبغي، ولابد، ومن الضروري أن) دون تقيد بأي التزام محدد، فيما خصص الجانب الأكبر من الخطاب لإعادة مروية 25 جويلية المعروفة، فتمخض عن خيبات أمل لا تُحصى ولا تعدّ!
لا يكتفي الرئيس في هذه المروية بالأحداث التي كان شاهدا عليها بوصفه رئيسا للجمهورية، بل يدمج قراءته الشخصية لمجمل الأحداث التي شهدتها البلاد من يوم 17 ديسمبر 2010، وهنا تكمن أكثر من خيبة أمل، فالمناسبة كانت تقتضي القطع نهائيا مع الماضي وفتح صفحة جديدة، لا سيما أن السواد الأعظم من الشعب، (السبعين في المائة الذين لم ينتخبوا قيس سعيد)، يقبلون به رئيسا امتثالا للديمقراطية، لكنهم حتما لا يوافقون على هذه الكتابة الذاتية للتاريخ، لأنها تقوم على التحامل والإنكار، وتخلط بين الحقيقة والانطباعات

وإذ يؤكد الرئيس قيس سعيد في أعطاف هذه الرواية أن ما قام به ليلة 25 جويلية كان قرارا شخصيا لا يعلم به أحد فإنه يفضي بنا إلى خيبة أمل أخرى، فهو لا يقدم قراره تجميد البرلمان بوصفه قرارا سياسيا يقع ضمن التزامات الرئيس المنتخب الدستورية أمام الشعب، بل يعتبره موضوعا أخلاقيا دينيا يقع في مجال الالتزام الشخصي بين الرئيس والله (قلت بيني وبين نفسي: كيف أقف بين يدي االله ويسألني …إلخ)، بما يعزز بطلان الرأي القائل بأن 25 جويلية يمثل انتصارا على الإسلام السياسي بطلانا تاما، فكل شيء يؤكد عكس ذلك

ورواية الرئيس الأحداث التي سبقت ليلة 25 جويلية تسقط عنصرا مهما يتعلق بدوره هو في ما حدث، فالحكومة التي يحملها مسؤولية الفشل في مواجهة كورونا حكومته هو، ووزارة الصحة التي كانت في قلب الصراع السياسي بين القصبة وقرطاج نجحت في الحد من آثار الجائحة مع وزراء آخرين، وقبل أربعة أيام فقط من إقالته أعلن هشام المشيشي أنه لم يعد يفهم ما يجرى في هذه الوزارة المشهود لها بالكفاءة ! وأن الأمور خرجت عن سيطرة الحكومة !! فلماذا يقدم الرئيس نفسه وهو يسرد تلك الأحداث مجرد شاهد عيان بينما هو فاعل رئيسي؟

أما خيبة الأمل الأشدّ وقعا على النفوس فتكمن في تضمين الرئيس خطابه شكرا للنواب الذين سحبوا البساط من تحت أقدام المحكمة الإدارية في اللحظة المناسبة وجنبوا البلاد (حسب قراءته هو) تنازع الشرعيات، فالتعسف في قراءة التاريخ وتأويله لا يقتصر على الأحداث البعيدة فقط بل يطال ما حدث منذ أسابيع قليلة أيضا، وفي الوقت الذي يعرف فيه القاصي والداني أن امتناع هيئة الانتخابات عن تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية هي الخطيئة الأصلية التي طرحت فكرة الفراغ الدستوري يعتبر الرئيس ما حدث مؤامرة تستهدف استقرار النظام

إن التاريخ على درجة من التعقيد لا تسمح باختزاله في قراءات شخصية انطباعية تُفرض عنوة في خطاب كان يفترض أن يخصص لعرض برنامج رئاسي متوسط المدى، برنامج يتضمن إجراءات وقرارات وآجالا ومواعيد محددة لا شعارات فضفاضة وتمنيات لا ترقى حتى إلى مستوى الوعود. أما كتابة التاريخ فمن مهام المؤرخين العلمية والأكاديمية إذ تفصلهم عن الأحداث مسافة معقولة لتوخي حد أدنى من الحياد والموضوعية

بقلم عامر بوعزة