عندما يخاطبنا الإخواني الغنوشي مكشوف الوجه فماذا يعني ؟

وقبل كلّ شيء علينا أن نتفق على مظاهر الوجه المكشوف عند الإخوان: يتّخذ مظاهر متنوّعة، لأنّ عادة الإخوان الخروج إلى الناس بأقنعة تقيهم الكشف عن حقيقتهم التي ظلّت وإلى يومنا هذا سرّا قُلّبًا بحسب الأوضاع… أمّا في تونس فإنّ للإخوان فيها بعضا من المؤهّلات لا يمكن لإخوانهم في بلدان أخرى أن ينعموا بها

قيل عنهم إزدواجيون في خطابهم وفي سلوكهم، والازدواجية هي تعبير خجول للنفاق، ومن معاني النفاق أنّهم يظهرون عكس ما يخفون، ويسلكون أساليب معقّدة لإخفاء ما في نيّاتهم. وانعكس الأمر على أحاديثهم الرسمية وتصريحاتهم الإعلامية، وبما أنّنا ندرس ظاهرة الغنوشي، لأنّها ظاهرة فريدة في النموذج الإخواني فإنّنا نذكر مثالا حديثا في الزمن ، ويعبّر عن مفهوم النفاق الإخواني: فقد صرّح في حمّى حملته الانتخابية أنّ التحالف مع القروي وحزبه يعدّ خيانة لمبادئ الثورة، وكم صارت هذه الكلمة سمجة عندما اقتنصها الإخوان وألبسوها جبّة إخوانية!!!! ثمّ وبقدرة قادر وبعد أن احتلّ الغنوشي المرتبة الأولى في نتائج التشريعية.. وبعد أن سقط مرشّحه لرئاسة الحكومة… وبعد أن انتقل التكليف إلى رئيس الجمهورية فاختار شخصية غامضة تجرّ وراءها خيبات وفشلا في تجربة مع الترويكا، وبعد أن أعلن الفخفاخ بلسانه ما لقّنه الرئيس من أوامر تصبّ جميعها في تبنّي مبادئ الثورة، مرّة أخرى!!! وهي مبادئ لا تنسجم مع حزبي القروي والدستوري الحرّ، وبناء عليه فإنّ الثورية تفرض مبدأ إقصائهما والاحتماء بحزام سياسي عتيد وقويّ، هو حزام الثورية الحزبية.. بعد هذه الأحداث جميعا يطلع علينا الغنوشي معلنا أن لا تحالف مع الفخفاخ من غير حزام توافقي ومن غير القروي وحزبه

فإذا به يكشف عن وجه آخر، هو نقيض الأوّل.. وجه يتنكّر للثورية التي عليها بنى حزبه حملته الانتخابية، وهو وجه يطلب التحالف مع حزب لا يحمل نفس الصفات لبقية الأحزاب التي تدّعي الثورية والتي التفّت حول سعيد معانقة ومحتمية به وحامية له في نفس الوقت.. ولم يكن الفخفاخ بالغبيّ حتى يعجز عن الفهم بأنّ ثوريته الملتهبة قد انطفأت بما رشّه عليها الغنوشي من ماء.. مثلما لم يكن بالغبي حتى يواصل المشي في طريق هذه الثورية التي لا يعقل معالمهما وهو الذي تربّى سياسيا في أحضان حزب كبر وشاخ وهرم في ظرف سنوات قليلة عانق فيها حزب الإخوان.. سنوات عرف فيها التحالف في معنى الذلّ والخنوع لإرادة الإخوان، بل وتنافس في إرضائهم مع غريمه حزب المؤتمر

وبقدرة قادر تنقلب الأوضاع، ويخمد حماس الفخفاخ، بل ويدير ظهره عن الذي نفث في روحه الحياة ليهرول إلى منزل الشيخ استرضاء له.. تعجّب الناس وارتابوا في صدق حماسه بل ويئسوا من مستقبله السياسي باعتباره منقذ تونس في هذه اللحظة التاريخية.. وهكذا يمكن القول إنّ الغنوشي عندما كشف عن وجهين في مسألة تكليف رئيس الحكومة أمكنه أن يستدرك ما كان قد أضاعه في مبادرته، مثلما أمكنه أن يدفع بالكثيرين من السياسيين إلى باب معبده طلبا للعفو والتوبة وإعلانا للطاعة… مثلما أمكنه أن يفرض وقتا إضافيا لسكوت الجميع، حتى كأنه دعوة إلى التفكير في عواقب ما سيختارونه من مواقف.. وها نحن ننتظر  » الشوط الثالث » من اللعبة

لقائل أن يقول إنّ زعيم الإخوان بدا المتمرّس الأقوى في هذه اللعبة السياسية، وأنّ لديه من الخبرة والحنكة ما يجعله ينام ملء جفونه، بل هناك من الحداثيين من أصيب بإعجاب وانتشى بهذه القدرة البالغة في الفطنة والذكاء!!! لكن، نعتبر أنّ مثل هذه المواقف تدلّ على أنّ للغنوشي في ازدواجيته أو نفاقه أوجها عديدة، وكلّ فرد يرى فيه الوجه الذي يناسبه

ولعلّ السؤال الغائب والذي نعتبره المحرّك الأساسيّ للغنوشي هو التالي: بماذا نفسّر هذه السهولة في سلوك الغنوشي؟؟ وماهي الخلفيات التي تحرّك هذه الأريحية في مواقفه فيكسب، دون مجهود يذكر كلّ مواجهاته ويخرج سالما من أزماته؟؟؟

الجواب واضح: فلئن بدا الغنوشي قويا فذاك لأنّ من واجهه ضعيف ومهترئ. نحن لا نمتلك معارضة سياسية بقدر ما يتحرّك بيننا أشخاص لا يهزّهم سوى القريب أو الشخصي من الطموحات.. لدينا سياسيون انغلقوا على أنفسهم وانقطعوا عن مشاكل تونس.. سياسيون لا يهمّهم من اللحظة الراهنة سوى عدد الوزارات التي يمكن اقتناصها، ولتذهب مشاكلنا الاقتصادية إلى الجحيم وكذا السياسية.. وليتدحرج المجتمع إلى الفقر والخصاصة بما أنّ أياما تنتظرهم سيذوقون فيها طعم الحكم و لا ضير إن كانت هذه السلطة تحرّكها أيدي الإخوان.. سياسيونا يا سادتي يحلو لهم التظلّل بجبّة زعيم المعبد، وصفتهم القناعة في كلّ شيء بل يرضون بالفتات من مَنِّهِ.. وشعارهم  » عصفور في اليد ولا اثنين فوق الشجرة ».. سياسيونا لا تعنيهم تحذيراتنا بأنّ للإخوان نارا تبتلع كلّ من اقترب منها.. لقد أصيبوا بحبّ جنوني لهذه النار ، وكيف لا وعن طريقها يبلغون الكراسي!!! لذلك ترون أنّ الغنوشي ينام هانئا كلّما أشعل هؤلاء السياسيون النار في وجهه، ويعتبرها نارا صبيانية يكفيه أن يطفئها « ببصاقه » وهذا ما فعله مؤخّرا، ولم نعد نرى منهم معارضا، بل حتى من اعتبر نفسه شرسا مثل التيار وحركة الشعب لانت ألسنتهما وتعطّلت لغة الكلام فلم يعد أيّ حزب منهما قادرا على تكرار ما كان يرسله من مطالب وتحدّيات، وصرنا نسمع كلّ يوم خطابا ليّنا يحمل في حياء بعضا من الأماني.. فالغنوشي كما ترون يكتسب قوّته من ضعف هؤلاء، لأنّه عارف بخباياهم وماسك لزلاّت لا يعلمها سوى هو وهذه الأحزاب، ولذلك كانت أحزابا إلاّ ربع، وبيده هو وحده تعديل أوتارها

ماذا بقي إذن للغنوشي من مواجه في هذه الأيام؟

وببساطة نقول: لم يبق أمامه سوى الرئيس قيس سعيد

ونعترف أنّ الغنوشي يواجه تجربة جديدة، وذلك بعد قصّة حبّ ونكاح متعة مع الرئيس السابق السبسي دام ما يقرب عن خمس سنوات.. إذ يبدو أنّ الرئيس الجديد يتمنّع ولا يرغب في نكاح مع الإخوان إلاّ على أساس أن تكون له الكلمة الفاصلة

وفي إجمال نقول: في البداية لم يمثّل سعيد خطرا على ساكن المعبد، بل أبدى نحوه ميلا وأمر أتباعه بمساندته في الرئاسية الثانية.. والسؤال: هل كانت للغنوشي معلومات أوّلية عن سعيد أم مثّل صعوده إلى الدورة الثانية للرئاسية مفاجأة؟؟ ورغم تزلّف الغنوشي فإنّ سعيد كان يصدّه ويعبّر له بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أنّ حزبه يصطفّ مع بقية الأحزاب، ولا يعترف بفضل أحدهم على الآخر.. ومثل هذه المواقف تعتبر منبتّة بالنسبة إلى ساكن المعبد، وهو المتعوّد على التبجيل والتفضيل بالنسبة إلى كلّ من سكن قرطاج بعد الثورة.. ولا يفوتنا في هذا السياق التذكير أنّ الغنوشي ظلّ طيلة هذه السنوات التسع يحكم من وراء حجاب رئاسة قرطاج، فتمكّن من البلاد والعباد، واستطاع أن يحكم وثاق كلّ من قرأ في نفسه القدرة على مواجهته من السياسيين، مثلما استطاع أن يفلت من المحاسبة ويصدّر المرزوقي أو السبسي شمّاعةُ يضع عليها خيباته والأذى الذي ألحقه بالمجتمع.. واستطاع أيضا أن يُحكِم وثاق الداخلية والعدل، فالملفّات مغلقة والتهم في الجهاز السرّي معلّقة.. ولا حسيب ولا رقيب.. والسؤال.. كيف لساكن المعبد الإبقاء على الأمور كما كانت عليه منذ السبسي؟؟!!! وكيف له ترويض شخصية بدت غامضة للجميع؟؟
الواضح أنّ سعيد أحرج ساكن المعبد بعد تنصيبه بقرطاج.. أضناه جفا لم يتعوّد عليه.. وكلّما سعى إلى الاقتراب منه لقي صدّا واسعا.. ولعلّ الذي زاد في عنائه هو ذاك الفارق الشاسع بين من صوّت لقيس والعدد الهزيل الذي صوّت للغنوشي في التشريعية.. وتلك طريق عبّدها خزّان انتخابي يقتضي من آمر المعبد أن يقلّصها حتى ينقذ صورته مع مريديه.. تبيّن إذن أنّ الإخوان يعيشون وسط المجتمع في حال من الانغلاق؛ وتلك لعمري مفارقة عجيبة تجمع بين متناقضين: الغنوشي الآمر والقائد بالنسبة إلى السياسيين والملفوظ المكروه من المجتمع!!!

وضعية صعبة تفرض على الغنوشي ان يجد لها حلاّ، و حلاّ سريعا .. إذ كيف له أن يضرب سعيد المتصلّب، وقد يكون المدبّر في خفاء لحيلة توقع بآمر المعبد؟؟؟ كيف له أن يكبح مجهودات سعيد ؟؟؟ وخاصّة بعد أن بدأت نواياه تُقرأُ في وضوح؟ وبصفة أخصّ بعد أن بدأ السياسيون الذين كانوا يتقرّبون منه ينفضّون من حوله بحثا عن بديل يستلهمون منه جرأة ضائعة!!!؟؟؟

في الحقيقة لم يكن الأمر بالعسير على الغنوشي.. فالمستضعفون من السياسيين لا يزالون على أعتابه ينتظرون ويتوجّسون ردّة فعلٍ منه، وبصفة أخصّ من كلّفه سعيد بتكوين حكومة.. وقد برهن بتعيينه أنّه جاهل بخفايا الأمور التي تحرّك الحياة السياسية بتونس.. لأنّ الفخفاخ مثال صادق ونموذج للسياسي الذي برهن عن محدوديته وفشله ومع ذلك يظلّ متشبّثا حتى بقشّ ليضمن بقاءه في المشهد السياسي.. وهنا أمكن للغنوشي أن يظهر في وجه المناور والمقايض ولم يخش العواقب لأنّ الفخفاخ يدرك جيّدا أنّ قيادة رقبته بيد الغنوشي لا سعيد

استطاع الغنوشي أن يحدث شرخا في خضمّ هذا المشهد السياسي، وتمكّن أن يطعن في سياسة سعيد عبر الفخفاخ .. ولم يكلفه ذلك سوى ظهورين إعلاميين: الأوّل أعلن فيه رفضه مبادرة الفخفاخ من غير إدماج القروي وحزبه، وظهور ثان ليركّز أساسا على أخطاء سعيد الديبلوماسية في ظرف 100 يوم من الحكم.. وهكذا وقف في وجه استقوائه تحت مظلّة الاستقلالية والنظافة ليذكّره أنّ الخبرة السياسية هي المنهج الوحيد في السلطة.. وهكذا سقطت جميع المبادرات التي عزم الفخفاخ عليها، وإن كانت مبادرات قد علاه الغبار ووضعت في الرفوف بعد حكم الترويكا ؛ فسقطت مبادرة الوثيقة وسقطت معها أحلام من أراد أن ينسج سيناريو الثورة المستردّة.. وبقي الجمع السياسي في حال من الجمود والإرباك

واليوم لم يبق للفخفاخ سوى أيام .. ولعلّ الأمور قد حسمها ساكن المعبد ليجيب معارضيه من المجتمع المدني أنّه ما زال الحاكم بأمره في البلاد وأنّ تونس سَبِيَّةٌ عنده منذ 2011 وهو الأقوى ب 111 صوتا في المجلس على الأقلّ، وحتى من عارضه من بقية الكتل فهو معارضة في النوع وليس في التضاد

أمكنه أن يغيّر الأوراق بفرض قلب تونس في النقاش، ولا يهمّه أن يكون القروي في الحكم بقدر ما يهمّه أن يكون حاضرا في المعارضة أيضا حتى يقطع الطريق على الدستوري الحرّ ويحرمه من رئاسة لجنة المالية، ولا بأس في هذا السياق أن يصوّت نصف نواب القروي لصالح الحكومة ويبقى النصف الآخر معارضا.. ويضمن بذلك القروي رهينة أهواء ساكن المعبد تتلاعبه رياح الميولات السياسية.. لكن السؤال القائم: إلى متى سيظلّ العصفور ناجيا من السجن؟؟؟

وأمكنه أن يكسر شوكة التيار والشعب، ويعاقبهما على انقلابهما عليه والارتماء في أحضان سعيد، وفي الوقت نفسه تنجو وزارات السيادة من سلطتهما

الجديد في 2020 أنّ الخطاب السياسي الساذج فاح وانتشر، وأنّ السياسيين انساقوا وراء طموحاتهم الضيقة ولا يجدون حرجا في التعبير عن رغبتهم في اقتسام : الكعكة

وفي الأثناء تضيع تونس وتذوب شخصيتها وقد اختنقت أنفاسها بجسم الإخوان المرميّ فوقها.. وفي الأثناء غابت البرامج المنقذة للبلاد، وعمّ فساد في الأخلاق السياسية.. وفي الأثناء تعود الروح عند الغنوشي كلّما توهّمنا أنّه ضاقت به السبل، فإذا به ينتفض ليهدم كلّ صرح لمدنية الدولة

صارت تونس في ظلام، وتحوّل الإخواني بطلا يصول ويجول في شوارعها كأنّه شبح.. حبّ الذات قتل تونس، وسنبقى على هذا النهج من المعاناة وجسد تونس مرمي لمصّاصي الدماء

بقلم الدكتورة نائلة السليني