شدني تعليق لشاب عرض فيه بداية نقاش مع أستاذ فلسفة انتهى بحذف الأستاذ للشاب من قائمة أصدقائه على صفحته الفايسبوكية وها هي الطرفة كما رواها الشاب الحائر أمام تصرف الأستاذ: »هذا الصباح كنت في نقاش مع أحد أساتذة الفلسفة في الجامعة التونسية حول مسالة المساواة فقال إن آية الميراث واضحة وصريحة ولا تحتمل التأويل والاجتهاد فقلت له: أستاذنا، هنالك إمكانية القراءة التاريخية للقرآن والتي من شأنها إعطاءنا أكثر حرية وإبداع ثم إن داعش استعملت، في بناء أيديولوجيتها، آيات واضحة وصريحة ولا تحتمل الاجتهاد حسب كل المفسرين وهي آيات تدعو للقتل ومحاربة الكفار وأعطيته أمثلة فما كان منه إلا أن غضب وقال كيف تشبه تحليلي بداعش؟ وبلوكاني… أستاذ فلسفة في الجامعة ولا يتقبل الاختلاف؟؟؟!!!!! حاصيلو باش اناقش روحي مستقبلا فقط
لا أريد أن أخوض هنا في محتوى النقاش لأنه ليس موضوعي هنا، لكنني أريد أن أواصل التساؤل الذي تضمنه تعليق الشاب الحائر: « مع من سأتناقش »؟
دعني أعتذر في البداية لكل أستاذ، عامة، ولكل أستاذ فلسفة بالخصوص، لم يأخذه الغرور والتكبر وتضخم الذات لدرجة من الإساءة إلى الفكر والعلم بحشرهما في حسابات ضيقة تفتقد إلى رؤية طموحة للمجتمع تؤسس للمحادثة البناءة والعدل الصادق والتضامن المسؤول لأجل عيش مشترك يتميز بالاحترام المتبادل من الجميع للجميع، في تواضع الوعي بأنه يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر
إلا أنه، والحق لا بد أن يقال، غمرتنا مؤخرا موجة من التحجر الفكري لدى بعض من يعتبرون رموزا للفكر فصرنا نتابع بعض أخبارهم وتصرفاتهم بكثير من التوجس وخاصة بكثير من الألم على هذا البلد الجميل وعلى مستقبله. كل ذلك من أجل السلطة والنفوذ، واحذر لنفسك وسط تلك الجماعة إن أردت التعفف عن تفاهتهم والتفرغ إلى ما ينفع الناس والوطن. والغريب هو أن هذا الصنف من الناس ما انفكوا ينزلون على صفحاتهم أطنان النصائح لإصلاح المجتمع ويخطبون من أعلا منابرهم أبلغ الدعوات إلى النظافة والكفاءة، إيهاما بالإيحاء أنهم أنظف الناس وأكفأهم. ثم ينطلق الانزلاق من هنالك لينتهي « النقاش »، عبر الشبكة، بالثلب الفاضح والشتم المتبادل وما إلى ذلك
إن كانت تلك هي العلة الضرورية للديمقراطية كما يجيب الكثير عن مثل هذه الملاحظات الناقدة، فلماذا لا نسعى، جميعا، للسير بها في اتجاه الديمقراطية المعافاة من العلل أو على الأقل من جلها بالتخلص أولا من جل ما في ذاتنا من تضخم يفقدنا التواضع المؤسس لاحترام الآخر أيا كانت درجة أو طبيعة اختلافه عنا؟ وفي قضية الحال، قضية أستاذ الفلسفة، ما ضر لو طرح هذا الأخير على نفسه السؤال المركزي: « لماذا لا يكون بعض الصواب من جهة الشاب ولماذا لا أراجع نفسي فأنسّب ما كنت أعتبره حقيقة مطلقة »؟ إذ من هنا تنطلق الديمقراطية: من باب تنسيب الأمور ومختلف الحقائق المتعلقة بها، لمراجعة الذات في مزيد من الاعتبار والاحترام للأخر
تعلمنا أن الخطاب سلطة ووسيلة للتسلط فصرنا كلما تحدثنا تشبثنا بالتفوق على من نخاطب، حتى إنه عند فشل الخطاب لا يتردد بعضنا في استعمال شتى وسائل العنف البديلة التي يمكن أن تصل إلى القتل
هكذا علمتنا البلاغة وجانب من الفلسفة آن الأوان أن نراجعهما ليكون تواصلنا محادثة أفقية بناءة ولتكون ديمقراطيتنا عادلة متاحة للجميع لا تصمت فيها الأقلية بل تتفاعل إيجابا مع مختلف التركيبات الاجتماعية لبناء نمط مجتمعي يحمل طموحات الجميع وينمي فيهم الأمل والاعتزاز بإنسانية المسار
لذلك، وفي ختام القول، أسوق رأيا للشاب الذي خاب ظنه في أستاذ الفلسفة ألا وهو: إن المجتمع أفضل مدرسة للفلسفة إذا كانت الفلسفة هي البحث في سؤال الوجود وفي معنى الحياة وفي مسار المجتمع وصيرورته. والفلسفة الحق تتلخص نهاية في أخر جملة ضمنها تعليقك: » حاصيلو باش اناقش روحي ». نعم، يا ولدي، أنت بذلك أمسكت الطرف الصحيح من الفلسفة وما البقية إلا امتداد لذلك
منصور مهني