لم يكن ذلك الخطاب البذيء حول « نسائهم ونسائنا » الذي ألقاه أحد النواب بالبرلمان، المؤسسة التي تتجسد فيها الصورة الأجلى للدولة المدنية الديموقراطية، ليثير استغرابي، وما كان يمكن أن أنتظر منه إلا ذلك الخطاب . فلا المرجعية التي يفكر من خلالها ولا الغايات التي يريد تحقيقها من وجوده في مؤسّسة من الثابت أنه يحقد عليها إيديولوجيا من صميم قلبه، يسمحان له بغير ذلك الخطاب المتطرف والعنيف والبذيء في آن. لقد مثّل موضوع المرأة في السياقات الحديثة رهانا متعدّد الأبعاد لم يكن من المتاح دون كسبه أن تحقّق الثورات الاجتماعية التي نقلت المجتمعات من النظام العتيق الباترياركي التراتبي إلى النظام الحديث أحد أهم أهدافها وهو بناء مجتمع المواطنين المتساويين ، ولا أن تؤتي الثورات السياسية أكلها بإقامة النظام المدني الديموقراطي المؤسسي الذي يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات . في المقابل ظلت الجماعات السياسية ذات المرجعية الدينية وذات الطروحات الإستبدادية تراهن هي الأخرى على النساء في تثبيت ما يتصور لها أنه المجتمع الأنسب لإقامة دولة دينية تمثل لب مشروعه السياسي. إن من يدعو لدولة دينية على شاكلة وهم دولة الخلافة لا يُتصور منه ولا يجب أن يُنتظر منه أيضا أن يرى المرأة إلا « حريما » لا يغادر أسوار البيوت ولا وظيفة لها غير السهر على خدمة « رب العائلة » وراحته، ولا يُنتظر ممّن ثقافته لا تتجاوز حدود ما ورثه عن فقهاء القرون الأولى من أقوال تحرم على النساء تولي الوظائف العامة، أن يقبل بيسر وأريحية وجود امرأة زميلة له في « برلمان الشعب » منتخبة من الشعب ولذلك انقسمت النساء في ذهنه وفي وعيه إلى « نسائه » ونساء الآخرين، وكل الذين لا يذهبون مذهبه ذاك آخرون. آخرون بالنسبة إليه أولئك التونسيون الذين كانوا روّاد الإصلاح والذين لم يكن رهانهم وهم يفكّكون أبنية الفكر الديني ضمن أفق تحرير النساء وتمكينهن من حق المواطنة مجرد رهان على كسب هذه المعركة في ذاتها بل كان كذلك رهانا على تحرير العقول من آثار الفهم الفقهي المنغلق للإسلام ومن تسلط العقلية الفقهية الذكورية.. آخرون بالنسبة إليه أولئك الذين كانوا من بناة الدولة الوطنية التونسية وهم يبادرون بإصدار مجلة الأحوال الشخصية قبل إصدار دستور لدولة تونس الوليدة لأن رهانهم على تحرير النساء والارتقاء بهن إلى مرتبة المواطنة الكاملة كان في الوقت نفسه رهانا على وضع الأسس المتينة لدولة مدنية تسوّي بين مواطنيها وتعمل على إدماجهم جميعا في معركة البناء، ولمجتمع حديث لا تتحدد فيه وضعيات الأشخاص بناء على جنسهم بل بناء على مواطنتهم بما تعنيه من حقوق وواجبات،..آخرون هم أولئك الذين ما زالوا يناضلون اليوم من أجل حفظ مكتسبات النساء وتطويرها والتقدم بها ومن أجل مراجعة كل آثار التمييز القائمة في القوانين والتصدّي لكل الممارسات المخلّة بمبادئ الدستور ومنها كل أشكال العنف بصورتيه المادية والرمزية المسلطة اليوم على المرأة والذي مارسه النائب المعني بواضح العبارة وصريح الفعل تحت قبة برلمان الشعب في دولة مدنية يناصبها هي الأخرى العداء نفسه الذي يكنه للمرأة التونسية صمّام بقاء هذه الدولة . لذلك على الذين يستنكرون هذا الخطاب ويشنعون عليه ويناضلون ضده أن يذهبوا إلى أصل الداء وهو وجود مثل تلك الأطروحة تحت قبة البرلمان ، وجودا يجب أن يقاوم بالفكر النير والحجة التي تخاطب العقل لا بخطاب التحريض الانفعالي، وبالقانون وآلياته لا بالساعد وسلاحه، والأوكد من كل شيء عليهم أن يناضلوا على الجبهة الأصل ، جبهة حماية الدولة المدنية وتثبيت أركانها واستكمال مؤسّساتها وتحصينها من الذين يتوسلون بمؤسساتها لتدميرها
بقلم زهية جويرو