في البداية أتوجه بتحية نضالية لكل الصامدات والصامدين المتمسكات والمتمسكين بقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان الكونية، رغم مناخ القمع والتهديد وتكميم الأفواه. واخص بالذكر المحاميات والمحامين الذين لم يتخلوا على رسالتهم في الدفاع عن الحق ومؤازرة المظلومين والوقوف في وجه التزييف والمغالطات وكانوا ولا يزالون خير سند لنا في هذه الأيام القاحلة
الصحافيين والصحافيات الذين لم يقايضوا بشرف مهنتهم ورسالتهم وتمسكوا باستقلاليتهم رغم هذا التيار الجارف من التهديد والوعيد ورغم التتبعات والإيقافات
ولن أنسى بطبيعة الحال المناضلين والمناضلات الشرسين من السياسيين ومن المجتمع المدني الذين هم بصدد دفع فاتورة الحرية باهظة
شكرا لكل المواطنين والمواطنات الأحرار المرابطين على مواقفهم المشرفة والمتمسكين بدولة الحرية والعدالة والمساواة
بعد أكثر من سنتين من الاعتقال والأسر والاحتجاز ألقسري لحرماني من حريتي ومن عائلتي ومن طلبتي ومن أصدقائي، ألاقي يوم 4 مارس 2025 لأول مرة منذ 25 فيفري 2023 في مهمة شبه مستحيلة هيئة قضائية لأدافع أمامها عن نفسي لأقنعها ببراءتي وانأ على يقين تام بأنها أكثر الناس اقتناعا بتلك البراءة
فكيف يمكن لي أن أفتح بابا مفتوحا أصلا ؟
كل ذلك لأنني صرت أسيرا في بلدا لا يتولى فيه القضاء الحكم بين الناس في حقوقهم… وإنما أصبحت مهمته هي القضاء على الناس وعلى حقوقهم
فمنذ أن تولت سلطة الأمر الواقع السطو على مؤسسات الدولة وإجهاض التجربة الديمقراطية التونسية الفتية كان القضاء احد أهدافها الرئيسية ، فسعت جاهدة إلى تدجينه وحشره في زاوية المظالم لتنفيذ أهواء السلطة و تصفية منهجية لكل الأصوات الرافضة أو المقاومة أو حتى الناقدة
فبعد أن تولى تصفية الهيئة المؤقتة لمراقبة دستورية القوانين حتى لا يكون على تشريعاتها الاستبدادية حسيبا أو رقيبا، قام النظام بحل المجلس الأعلى للقضاء الضامن لاستقلالية القضاء، فخلى له الطريق وتجرأ على تغيير القانون الأساسي مسندا لنفسه حق عزل القضاة بجرة قلم، وانتهى به الأمر في ليلة ظلماء إلى عزل 57 قاض من بينهم خيرة قضاة البلاد وأكثرهم تمسكا بالاستقلالية واحتراما للمهنية.
ومنذ ذلك التاريخ افتك هذا النظام مفاتيح السجون وتحول من حام للدولة إلى سجان
كان هدفه الأساسي من كل هذه المناورة هو تصفية جميع معارضيه فحوّل العمل المدني والسياسي إلى مؤامرة ونشاط المعارضين إلى تآمر ونقد السلطة إلى خيانة
وبدأت مرحلة النزول إلى الجحيم، بحملات مكثفة من الإيقافات والهر سلة القضائية لكل النشطاء السياسيين والنقابيين والإعلاميين والحقوقيين ورجال الأعمال والإداريين وكل من تسول له نفسه قول كلمة حق أو رفض الابتزاز أو التعليمات وحتى من تجند للدفاع عن كل هؤلاء من المحامين والمحاميات وجد نفسه هو بدوره ملاحق بالقضايا والتهم الخطيرة
في ليلة 14 فيفري 2023 ومن مقر وزارة الداخلية اصدر الحاكم بأمره أوامر اعتقالنا… ووجه التهم… وكيف الأفعال واصدر الأحكام… وهدد كل من يبرئهم بملاقاة نفس مصيرهم …ثم كلّف موظفيه من القضاة بإمضاء نص الإدانة في صمت وخنوع. ثم ادعى انه لا يتدخل في القضاء
كان قاضي التحقيق الذي لاقيته لمرة واحدة في 25 فيفري 2023، والذي لن أتمكن للأسف من ملاقاته مجددا باعتباره قد فر من البلاد محاولا الهروب من ضميره، كان رجلا مسكينا خائفا مرتبكا وكنّا جميعنا يومها ورغم خطورة التهم الموجهة لنا واقفين بشموخ وثقة ورؤوس عالية نحاكمه على ظلمه وخيانته لرسالة القضاء فلم يتجرأ حتى على النظر إلينا في أعيننا
يوم 4 مارس 2025 يريد هذا النظام إقامة مؤدبة محاكماتنا ولكن مالا يدركه انه هو من سيحاكم ، نعم سنحاكمه نحن لتآمره على الحرية وعلى الديمقراطية، فهذه القضية هي فعلا قضية تآمر معلومة الإطراف ولكنها تآمر النظام على نخبة من القيادات السياسية الديمقراطية لكونها سعت لتوحيد صف المعارضة وجمع كلمتها ولملمة صفوفها بهدف الوقوف في وجه الاستبداد الزاحف من جديد على وطننا
هاته النخبة كان إزعاجها للنظام محدودا عندما تفرق صوتها وعجزت على تنسيق مواقفها وتحركاتها المدنية والقانونية إلى أن برزت محاولة جادة في تجميعها وتوحيدها… حينها ثارت ثائرة الحاكم بأمره وقرر إجهاض هده المحاولة في مهدها
هذا هو جوهر القضية واصلها وكل ما تفرع عنها من تهم باطلة وسرديات سخيفة وإجراءات مضحكة هي محاولة فاشلة لتلبيس المسعى الاستبدادي للسلطة رداءا قضائيا
قام القضاء في سابقة هي الأولى في تاريخ الاستبداد بفبركة الملف والاستعانة بشهود زور من عتاة المجرمين، أخرجوهم من زنازينهم بالمرناقية وفتحوا لهم المحاضر ولقنوهم دروسهم فاخذوا في الهذيان والهسترة فأنجبوا محاضر سماع لم يشهد القضاء أتعس وأتفه منها
لقد أصبحت السجون في هذا العهد السعيد منبت يترعرع فيه الشهود والمخبرين ويغنم منه القضاء ما تيسر من شهود الزور كلما ما ضاقت بهم السبل لإثبات التهم الباطلة بمقايضة جوفاء ومزورة
عندما اصدر ما يسمى بقاضي التحقيق الفار من ضميره بطاقات الإيداع في حقنا كان على وشك الانهيار صغيرا مخزيا للقضاة جميعهم ووصمة عار في تاريخ القضاء التونسي… وكان ذلك آخر عهدنا به وبالقضاء
فلم نر بعده أحدا ولم يسمع منا أحدا سوى كوكبة من المحامين والمحاميات الذين رافقونا بشجاعة طيلة هذه السنوات
فكانوا صوتنا الذي لم يصمت أبدا ولن يصمت أبدا
يوم 4 مارس 2025 سيكتشف الشعب التونسي حجم الخيانة وحقيقة التآمر وسيعلم القاصي والداني من خان ومن تآمر ومن كذب عليه ومن هو الضحية ومن هو الجلاد
وعليه فان محاكمتنا لا يمكن أن تقوم إلا بحضورنا جلسة وبفتح أبواب قاعة الجلسة أمام عموم التونسيين ولن نقبل أن تتم هذه المحاكمة في الغرف المظلمة وفي السرية المخجلة… أبدا لن نقبل
نحن واثقون من أنفسنا ومن براءتنا وإذا أغلق هذا النظام باب المحكمة في وجه الرأي العام فذلك اعتراف منه بأنه يخجل من أفعاله ومن هذا الملف الملفق والردئ
نريد محاكمة علنية … لا عن بعد ولا سرية … فليتحمل كل طرف وزر أفعاله ومسؤولية جرائمه
عاشت تونس حرة ديمقراطية وعاش مناضلوها ومناضلاتها الاحرار
الخزى والعار على كل من باع نفسه وضميره ورسالته خوفا او طمعا فالتاريخ لن يرحم احدا ولن ينسى ابدا
المعتقل السياسي جوهر بن مبارك