رغم أنه يدل بشكل مباشر عن معنى جنسي يعتبره البعض وضيعا، فإن الإصبع الأوسط يستخدم في مجالنا اليومي بشكل مجازي للدلالة على معنى آخر مختلف تماما…فعادة ما يقترن الاستظهار به في معارك الشارع بهذه الفكرة : لن تأخذ مني شيئا مهما فعلت
وقبل أن نلقي بالمسؤولية على عاتق الشابة التي أودعت السجن لأنها أشهرت إصبعها الأوسط أمام صورة الرئيس، ينبغي أن نتساءل : من الذي قرر أن يجعل من الجدل السياسي ومن الاختلاف (معركة شارع) تعطلت فيها كل الأسلحة المعقولة والمسموح بها في المواضعات الاجتماعية؟ ينبغي أن نفكر: من الذي بادر بإشهار الإصبع الأوسط في وجه الآخر: المواطن أم الدولة؟
تأتي هذه الحادثة المؤسفة في سياق انتخابي غير عادي، فمدار الاختلاف هذه المرة لا يتعلق بشخص المترشح ولا ببرنامجه الانتخابي. الجدل هنا يتعلق بدولة القانون والمؤسسات، والاحتجاج على تغيير القانون الانتخابي قبل أسبوعين من يوم الانتخاب لا يمثل انتصارا لعلوية القانون وهيبة الدولة فقط، بل هو دفاع عن العقل والمنطق والأخلاق
لقد قيل سابقا إن تغيير القانون في سنة الانتخابات عمل غير أخلاقي، ورغم أنه لا يوجد نص واحد يحدد المهلة الزمنية التي تفصل بين ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي فإن رأس الدولة فرض في 2019 على الجميع الامتثال إلى الأخلاق السياسية الحميدة، لكننا اليوم وفي خضم هذه الانتخابات غير المسبوقة نرى كيف تتخلى المؤسسات عن كل الضوابط لإهانة القانون والأخلاق، وهي ممارسات بقدر ما تهدف إلى خدمة شخص واحد تستهدف كل مواطن أيا كان انتماؤه السياسي وتصيب كرامته ومواطنته في مقتل
أمن الأخلاقي التقدم إلى الانتخابات الرئاسية من جديد دون خضوع لمحاسبة دقيقة عن العهدة الأولى؟ أمن الأخلاقي الترشح دون برنامج حقيقي يتضمن التزامات خاضعة للتقييم؟ أمن الأخلاقي رفض التناظر العلني مع بقية المترشحين؟ أمن الأخلاقي عدم تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية والتشريع لتغييرها في ما تبقى من المسار الانتخابي؟ أمن الأخلاقي التنكيل بمترشح رئاسي؟ لكن أمام هذه القائمة الطويلة من الممنوعات التي استبيحت لم يستفز حمية الجمهور وغيرته على الأخلاق الحميدة إلا إصبع الطالبة الشابة
هاهنا يكمن بعض التفسير للعطب الديمقراطي في مجتمعنا الشرقي، فالأخلاق الحميدة عندنا لا تتجاوز موضوع الجنس، ونظرتنا للعلاقات السياسية في إطار منظومة الدولة محكومة بالنظرة الأخلاقوية العائلية القبلية الضيقة: نظرة لا تخرج عن إطار (عيب، احشم، غطي روحك، لا ترفع صوتك في وجه أبيك ولا تدخن أمامه..) وهي نظرة مبنية على التنازل للآخر، بينما يفترض في منطق العلاقة بين المواطن والدولة التساوي في الحقوق والواجبات. واحترام المواطن للدولة ورموزها يفترض أن يكون نتيجة مباشرة لاحترام الدولة مواطنيها. لكننا جميعا قادرون على إلقاء محاضرات في الشرف والعفة عندما ترفع مواطنة إصبعها الأوسط في وجه الرئيس بينما نصاب بصمت الخرفان عندما تشهر الدولة بكل أجهزتها إصبعها الأوسط في وجوهنا
بقلم عامر بوعزة