فرصة أخرى تضيع في بلد صار يحترف تضييع الفرص، ففؤاد المبزع هو رئيس جمهورية أسبق، وهي صفة كانت تستوجب نعيا رسميا من الرئاسة لو كنا متصالحين مع التاريخ ومع الأخلاق ومع ذواتنا. وإصدار نعي رسمي في هذه المناسبة الأليمة كان سيقدم للشعب وللعالم رسالة عميقة الأثر في معنى احترام التاريخ رغم الاختلاف، لكن التجاهل الرسمي يوجه بدلا عن ذلك رسالة واضحة عن حالة الإنكار التي تمارسها السلطة إزاء الجميع، واحتكارها قراءة التاريخ والدساتير، وكل ما تتلفظ به النخب في لحظات اليأس والقنوط والغضب
بتنزيل الحدث في سياقه من الحالة الشعبوية التي يعيشها التونسيون حاليا يمثل عدم إصدار نعي رسمي عدم اعتراف السلطة القائمة بفؤاد المبزع (رئيسا للجمهورية) بمفعول رجعي! فهو الذي شكل في 2011 مجلسا تعدديا للانتقال الديمقراطي شاركت فيه مختلف أطياف الشعب التونسي لوضع دستور صغير يفضي إلى انتخابات المجلس التأسيسي، وذلك المجلس بالذات يعتبره النظام الحالي مسؤولا عن (تحويل وجهة الثورة) وتقديمها على طبق من ذهب للنخب الأرستقراطية، ولذلك لا يبدو فؤاد المبزع في نظرها رئيسا للجمهورية، بل عدوا للثورة
رحم الله فؤاد المبزع رئيس الجمهورية الأسبق فعلاوة على كونه شغل منصب رئيس الجمهورية في أخطر مرحلة مرت بها بلادنا واستطاع تأمين الانتقال السلمي من حالة الفوضى إلى الاستقرار والتداول الديمقراطي على السلطة، هو مناضل دستوري ومسؤول سياسي بارز عاصر فترات مهمة من تاريخ الحركة الوطنية وعايش مختلف تحولات المجتمع التونسي الحديث من مواقع شتى، وتحتفظ له الذاكرة بدور مهم في ملحمة الأرجنتين الكروية
أما التاريخ الذي يكتبه (المنتصرون) فهو مثل حبة المنوم التي سرعان ما ينتهي مفعولها، لتعود الأشياء شيئا فشيئا إلى أصلها، لقد عشنا ثلاثة وعشرين عاما نسمي الإطاحة ببورقيبة (الثورة الهادئة) و(التغيير المبارك) ثم عاد هذا الحدث في النهاية ليستقر في ذاكرة التاريخ (انقلابا)، وهذا دليل لا يقبل الشك على أن أي سلطة مهما كانت شراستها لا يمكنها ليُّ عنق التاريخ وجرّه إلى بيت الطاعة عنوة، قد يحدث ذلك مؤقتا لكنه لا يدوم، فقط يتوجب على الأجيال القادمة التي سيكتب لها أن تعيش في تونس أخرى غير التي انتهينا إليها كثير من الجهد من أجل إعادة الأمور إلى نصابها
بقلم عامر بوعزة